بسم الله الرحمن الرحيم
المسيح يُعرِّف نفسه بأنه نبيٌّ و رسولٌ لِلَّه و يؤكد أنه عبدٌ مأمورٌ لا يفعل إلا ما يأمره به الله تعالى و لا يتكلم إلا بما يسمعه من الله تعالى .
البديهي أن المسيح عليه السلام لو كان هو الله تعالى نفسه الذي تجسَّد و صار بشرا و جاء لعالم الدنيا بنفسه ـ كما استقر عليه دستور الإيمان المسيحي ـ لما صح أن يطلق عليه لقب نبيّ ، لأن " النبيّ " اسم لشخص منفصل عن الله يُـنبىء عن الله تعالى ، أي يخبر عنه ، بما يسمعه من الله إما بواسطة الكلام المباشر أو الوحي الخفي أو ملكٍ رسول ، كذلك لا يصح أن يطلق عليه اسم " رسول " لأن الرسول اسم لشخص منفصل عن الله ، يبعثه الله تعالى لأداء مهمة ما ، أما الله تعالى لو تجسد فعلا و صار بنفسه إنسانا و نزل لعالم الدنيا ليعلن الدين الجديد بنفسه ، فلا يكون عندئذٍ رسولاً ، إذ ليس ثمة مرسل ٍ له ، بل في هذه الحالة يكون هو نفسه ، و بدون واسطة ، قد أخذ على عاتقه مهمة الاتصال بمخاطبيه .
و حاصله أنه لو صح أن المسيح كان الله نفسه متجسدا ، لما صح أن يسمى رسولا و لا نبيا . ولكن الحقيقة أن الأناجيل طافحة بالنصوص التي يعرِّفُ المسيح عليه السلام فيها نفسه بأنه " نبيّ " و بأنه " رسول " أرسله الله تعالى للناس ، و أن ما يقوله للناس ليس من عند نفسه بل من عند الله الذي أرسله ، فتعليمه ليس لنفسه بل للآب الذي أرسله ، فهل هناك أصرح من هذا في بيان الغيرية بين عيسى والله تعالى ؟ ، وأنهما اثنان : مُـنبىء ونبي ، و مُرسل و رسـول ؟
و فيما يلي بعض ما جاء في هذا المجال :
(1) في إنجيل متى (13 / 54 ـ 58) :
” و لما جاء إلى وطنه كان يعلمهم في مجمعهم حتى بهتوا و قالوا من أين لهذا هذه الحكمة و القوات ؟ أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم و إخوته يعقوب و يوسي و سمعان و يهوذا ؟ أو ليست أخواته جميعهن عندنا ؟ فمن أين لهذا هذه كلها ؟ فكانوا يعثرون به . و أما يسوع فقال لهم : ليس نبيٌّ بلا كرامة إلا في وطنه و في بيته . و لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم “
و الشاهد في قوله ” ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه “ حيث عبر عن نفسه بأنه نبي، و هذه الجملة وردت في الأناجيل الأربعة جميعا .
(2) و في إنجيل متى كذلك (10 / 40 ـ 41) في ذكره لما قاله السيد المسيح عليه السلام للحواريين الاثني عشر حين أرسلهم لدعوة بني إسرائيل و تبشيرهم بالإنجيل :
” من يقبلكم يقبلني و من يقبلني يقبل الذي أرسلني و من يقبل نـبـياً باسم نـبـي فأجر نـبـيٍ يأخذ “ .
(3) في إنجيل لوقا (10/16) في آخر الخطبة التي قالها السيد المسيح عليه السلام للتلاميذ السبعين الذي أرسلهم اثنين اثنين للوعظ و البشارة بالإنجيل في قرى فلسطين، أنه قال لهم :
” الذي يسمع منكم يسمع مني و الذي يرذلكم يرذلني و الذي يرذلني يرذل الذي أرسلني “.
(4) و في إنجيل لوقا (4 / 42 ـ 43) :
” و لما صار النهار خرج و ذهب إلى موضع خلاء و كان الجموع يفتشون عليه فجاءوا إليه و أمسكوه لئلا يذهب عنهم . فقال لهم : إنه ينبغي لي أن أبشِّـر المدن الأخرى أيضا بملكوت الله لأني بهذا أُرْسِـلْتُ“ .
(5) و في إنجيل يوحنا (7 / 28 ـ 29) :
” فنادى يسوع و هو يعلم في الهيكل قائلا : تعرفونني و تعرفون من أين أنا و من نفسي لم آت بل الذي أرسلني هو حق الذي أنتم لستم تعرفونه . أنا أعرفه لأني منه و هو أرسلني “ .
(6) و فيه أيضا (8 / 16 ـ 17) :
” و إن كنت أدين فدينونتي حق لأني لست وحدي بل أنا و الآب الذي أرسلني . و أيضا في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق . أنا هو الشاهد لنفسي و يشـهد لي الآب الذي أرسلني “ .
قلت : استشهاد المسيح عليه السلام بحكم التوراة " شهادة رجلين حق " تصريح منه بالغيرية بينه وبين الله تعالى الذي يشهد له، فهما إذن اثنان : مرسل و رسول ، و هذا ينفي بوضوح قضية أن المسيح هو الله نفسه متجسد ا .
و الآن إليكم هذه العبارة التي قد تفاجئكم بشدة وضوحها و صراحتها في نفي إلهية عيسى :
(7) ففي إنجيل يوحنا (8 / 40) :
” و لكنكم الآن تطلبون أن تقتلونني و أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله “
أقول: لو لم يكن في الإنجيل سوى هذه الآية لكفى بها دلالة على نفي إلوهية عيسى عليه السلام .
(
و فيه أيضا (8 / 26 ـ 29) :
” لكن الذي أرسلني هو حق و أنا ما سمعته فهذا أقوله للعالم . و لم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب . فقال لهم يسوع متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو و لست أفعل شيئا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي و الذي أرسلني هو معي و لم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه “ .
(9) و فيه أيضا: (10/36) :
” فالذي قدَّسه الآب و أرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدَّف لأني قلت أني ابن الله؟! “
(10) و فيه أيضا: (20/20) :
” فقال لهم يسوع أيضا سـلام لكم . كما أرسلنـي الآب أرسلـكم أنا “
قلت : ففي العبارة الأخيرة يماثل سيدنا المسيح عليه السلام بين إرسال الآب له و إرساله هو لتلاميذه للدعوة و التبشير، و بالتالي فكما أن تلاميذه و حوارييه ليسوا عيسى بعينه ! فبمقتضى التماثل لا يكون عيسى عليه السلام هو الله بعينه، بل يكون رسوله و مبعوثه .
و فيما يلي بعض النصوص التي يبين فيها المسيح عليه السلام أنه لا يتكلم من نفسه بل هو حامل لرسالة من الله مأمور بتبليغها للناس، و أنه لا يعلم إلا ما يوحى إليه :
(1) في إنجيل يوحنا (14/24) :
” الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي . و الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني “ .
(2) و فيه أيضا : (15/15) :
” لكني سميتكم أحبَّاء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي “ .
(3) و فيه كذلك (12 / 49 ـ 50) :
” لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول و بماذا أتكلَّم . و أنا أعلم أن وصيته هي حيوة أبدية فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم “ .
و أعتقد أن هذه العبارات واضحة للغاية في تأكيد ما قلناه، و نظائر هذا في الأناجيل كثير، لا سيما إنجيل يوحنا، و فيما ذكرناه الكفاية .
كان هذا ما عرَّف به المسيح نفسه ، فكيف عرفه تلاميذه و بماذا وصفوه ؟ هل جاء على لسان أي أحد منهم و لو مرة واحدة عبارة يصفه بها بأنه الله نفسه متجسدا ؟ أم وصفوه،كما علمهم المسيح ، بأنه نـبـي و رسول مرسل من الله ؟
لنقرأ للأناجيل تعطينا الإجابة الواضحة :
(1) في إنجيل متى (21 / 10 ـ 11) قول المؤمنين بالمسيح عليه السلام لدى استقبالهم له عند دخوله بيت المقدس :
” مبارك الآتي باسم الرب ... هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل “.
(2) و في إنجيل لوقا (7 / 12 ـ 16) :
” فلما اقترب (يسوع المسيح) إلى باب المدينة إذا ميت محمول ، ابن وحيدٍ لأمّه . و هي أرملة و معها جمع كثير من المدينة . فما رآها الرب تحنّن عليها و قال لها لا تبكي . ثم تقدّم و لمس النعش فوقف الحاملون . فقال : أيها الشاب أقول لك قُـمْ! . فجلس الميت و ابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمّه . فأخذ الجميع خوفٌ و مجدوا الله قائلين : قد قام فينا نّبِيٌّ عظيم و افتقد الله شعبه “.
(3) و في إنجيل يوحنا (4/19) : عن المرأة التي دهشت لما أخبرها المسيح، الذي لم يكن يعرفها من قبل ، عن أزواجها الخمسة السابقين ! أنها قالت :
” يا سـيـّد! أرى أنك نـبـيّ.. “.
(4) و في إنجيل يوحنا (6/14) : أيضا بعد ذكره لمعجزة تكثير أرغفة الشعير الخمسة و السمكتين :
” فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا : إن هذا هو بالحقيقة النـبـي الآتي إلى العالم “ .
(5) و أخيراً جاء في آخر إنجيل لوقا (24/19) : ضمن روايته للحوار الذي جرى بين المسيح ، بعد صلبه ( حسب تصورهم) ، و اثنين من حوارييه ، الذين لم يعرفوه لأنه كان متنكرا و لأنهم كانوا يتصورون أنه قد مات :
” فقال (لهما) (يسوع) : و ما هي ؟ (أي تلك الأحداث التي جعلتكم مغمومين) قالا : المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنسـانا نّـبِـيَّـاً مقتدرا في الفعل و القول أمام الله “.
أجل ، هكذا كان إيمان الحواريين بالمسيح : أنه كان إنسانا نبياً .
و من الجدير بالذكر أن هذا الحوار جرى في آخر حياة المسيح عليه السلام ، و قبيل رفعه ، فلا مجال للقول بأن هذا كان تصورهم القديم في بداية الدعوة لكنهم آمنوا بعد ذلك بألوهيته ؟
و نحن نسأل كل منصف : من الذي كان يعرف حقيقة المسيح أكثر : هل هم تلاميذه و حواريوه الخلّص و أقرب الناس إليه ؟ أم الآباء و الأساقفة اليونان أو الروم الذين أداروا مجمع نيقية أو مجمع أفسس أو مجمع خلقيدونية و الذين تفصلهم عن المسيح ثلاثة أو أربعة قرون ؟
أنتظر التوضـــــــــيح